ذكرت في الجزء الأول من المقال عوامل النشأة الصحيحة للمجتمع، وأدرجتها في ثلاث محاور هي الثوابت ، الدستور والأقتصاد.
إذا نظرنا لنشأة المجتمعات البسيطة حيث كان الإنسان يتصرف بفطرته أو سجيته الإنسانية فهو لم ينجح في بناء مجتمع دون وجود مصلحة مشتركة ودون وجود قانون أو عرف ينظم العلاقات بين الأفراد، ودون وجود مصدر اقتصادي يعيل هذه المجموعة البشرية.
في الأحواز اليوم يوجد مجتمع قبلي ينطبق عليه تعريف ( المجتمع ) ، حيث المصلحة المشتركة وحيث العُرف ( القانون ) وحاجات الناس المادية أثناء مواجهة المستجدات .
ونحن نتحدث اليوم عن مجتمع أحوازي كبير تشكل القبيلة مكوناته الكلية، ولقد أطلعت على بعض الأراء التي تتحدث عن مجتمع مدني لا تشكل فيه القبيلة أي نواة ، بل ويُعزى سبب تخلفنا وسبب أستمرار وجود الاحتلال إلى الحالة القبليّة الموجودة حيث يُنظر إليها كحالة سلبية تشدنا للخلف. وفي الوقت الذي يعتبر فيه المنطق هو الفيصل بين العقل والاعقل ، فإن من المنطق هو ترتيب الأولويات العقلية دون الشذوذ كثيراً والحديث عن ما وراء الطبيعة ( الميتافيزك ) ، ولذا فإن الحديث عن مجتمع مدني أحوازي في هذه المرحلة التي نعيشها ونحن تحت ظل احتلال أجنبني هو نوع من حديث الما وراء الطبيعة.
ومن ناحية علمية وباعتبار أن القبيلة هي مجتمع فإن إلغاءها يعني التحول إلى المجتمع الإيراني بطريقة إنسيابية سلسة. فإن اتفقنا على أن تعريف المجتمع هو ( مجموعة بشرية يرتبطون بعقد اجتماعي ينظم العلاقة بين الأفراد ) فإن عدم وجود القبيلة يعني أن من سوف ينظم العلاقات بين الأفراد هو قانون الاحتلال.
فرغم أننا اليوم نخضع جبرياً لبعض قوانين الاحتلال إلا أن المرجعية الأساسية للفرد تبقى هي قبيلته وإلا فإن الاحتكام لقانون المحتل يعني الاعتراف الضمني بالاحتلال. فأمامنا خياريين كما أتصور ، الأول أن نبني تصور عن مجتمع بمكونات أصيلة ، والثاني أن ننخرط في مجتمع الاحتلال الإيراني . وأن أي تصور آخر أرى أنه غير عقلاني باعتبار أن الأدوات العقلية للبناء غير موجودة .
ثم أن علينا تحديد أولوياتنا في هذه المرحلة ، فهل هي التخلص من الاحتلال وبناء ذاتنا الوطنية من خلال مانملك من أدوات أم هي صناعة إنسان آلي غريب الأطوار نستنسخه من تجارب الآخرين في الوقت الذي لا نمتلك أي وسيلة من وسائل الثورة الثقافية الشاملة .
فهناك أفكار يمكن لها أن تنتج شيئاً على أرض الواقع لأنها تستخدم آليات الواقع وهناك أفكار طوبائية حالمة تتحدث عن خيالات فردية تكون في أغلب الأحيان ناتجة عن حالة نرجسية إستعلائية .
إننا لم نحلل واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي قبل الاحتلال أي قبل عام 1925م، وأكتفينا كما هي الأمم المتخلفة التي ترسم صورة وردية مثالية للماضي، فنبقى أسيري تلك المثالية التي تكبل عقولنا وتشدنا للخلف دائماً.
فهناك فرق كبير بين الدولة الفاشلة وبين الدولة الناجحة، وحتى بمعايير الماضي فإننا كنا نعيش تحت ظل دولة مهشمة أفقياً وعمودياً، ومن السهل جداً احتلالها . فالتهشيم الأفقي كان من خلال تفتيت المجتمع إلى موالي ومعادي، وعمودياً كان غياب المؤسسة السياسية المدركة لضرورة احترام آدمية الإنسان تغط في نوم عميق أدى إلى تلاشي عملية الإرتباط بين الدولة والمواطن .
ولذلك فعدم فهم الأسباب ومواطن الضعف التي سهلت احتلال الوطن وهي مازالت موجودة وفاعلة إلى يومنا هذا هي حالة غير صحيّة .وستبقى هذه الأسباب قائمة إن لم نعالجها من خلال إعادة قراءة تاريخنا السياسي قبيل الاحتلال، فعندما نتحدث عن قضية ومستقبل شعب ونغض الطرف عن جروح وآلام عاشها الاحوازيون وكأنها شيء من الماضي مات وانتهى دون أن نعي أن للبشر ذاكرة قد تنسى الأفراح ولكنها لا تنسى المآسي ، فأعتقد أننا ندور في حلقة مفرغة .
فمعرفة سبب فقدان الوطن سيكون هو الوسيلة لاستعادة الوطن
فنحن لم نكن شعباً في زمن حكم الشيخ خزعل بل كنا قبائل موالية وقبائل مناهضة ، وهذا يفقد الوطن معناه ، ثم إننا لم نفهم بعد عقلية القبيلة ولم نتعامل معها بالشكل الذي تراه القبيلة مشروعاً.
فالوطن لا يحمل شرعية الوجود إن لم تكن للمواطن شرعية وجود، والقبيلة تنظر لأبنائها نظرة المسؤول لا كما ينظر النظام الاستبدادي للمواطنين، وبالتالي فهي مسؤولة عن حماية أمن أبنائها وصون كرامتهم، ولا وطن للقبيلة أن لم يرعى النظام السياسي أبناءها .
فالقبيلة وطن صغير ولا يمكن لها أن تعيش في ظل تناقض وفي ظل مجهول الهوية . ففي الوقت الذي هدر فيه الشيخ خزعل حق القبيلة في الوطن ، استطاع المحتل أن يستغل هذا الواقع لصالحه .
لقد فهمنا المحتل الفارسي أكثر مما فهمنا أنفسنا ، وكان المحتل ومازال أكثر منا شجاعة في التعامل مع الواقع الاجتماعي الأحوازي ، ففي الوقت الذي نغطي فيه الشمس بغربال ونتحدث عن أوهام نصبغها بلون الوطنية والحضارة ، أجدنا ننسلخ من الحضارة حين نعجز عن معاجة واقعنا .
الوطن للجميع وهذه مقولة رائعة ولكن كيف يكون الوطن للجميع ؟
لقد مررنا بعدد من تجارب الوحدة الوطنية ، وكانت غالبا ما تصتدم بحالة لا يتم التعبير عنها كما هي ، ولا أحد قادر على البوح فربما يُعتبر هذا البوح نوعاً من أنواع التخلف كما يعتقد البعض . فالسر ليس بعدم قناعة الأحوازيين بضرورة الوحدة الوطنية لأني أعتقد أنهم جميعاً مقتنعون ، ولكن يبدو أن هناك هاجس مخيف جاء من الماضي لا نجرء على البوح به باعتبار أن يتناقض مع مبدأ الوطن كما يعتقد البعض وهم مخطئون .
سأضع أمامكم تجارب الأمم والشعوب التي واجهت الواقع بكل شجاعة ورسمت صورة للمستقبل تستمد عنفوانها وبريقها من الماضي ، واستطاعت أن تشّكل أوطان ودول محترمة .
أوربا أكثر قارة عانت من الحروب الخارجية والداخلية على مر العصور ، ثم حين بدؤوا يشكلون دول حديثة لم يتغافلوا عن حقيقة تعدد الهويات عند الانسان ، وإن الهوية الوطنية هي إطار جامع لمجموعة الهويات دون أن يكون هناك أي تصادم أو تصارع على الوجود . فابتكرت النظام الفيدرالي للدولة الواحدة ، ورأت أن الخصوصية الجزئية يمكن أن تكون ضمن خصوصية كلية بل يمكن لها أن تكون عامل قوة ونهضة للخصوصية الكلية ( الهوية الوطنية ) . ثم وجدوا أن الوطن الذي لا يصون خصوصية الفرد أو الجماعة لا يمكن أن نسميه وطن بل يمكن أن يكون مستعمرة .
مشكلتنا في العالم الثالث أن دولنا تشكلت دون وجود فكر مسبق بل كانت نتيجة هيمنات أجنبية ، ولم نقرأ أو نسمع عن أفكار حاولت أن تعالج قضايا المجتمعات المتناقضة رغم وحدة الدين واللغة ، فالدين واللغة ليست كل شيء رغم أهميتهما ، ففي عالمنا العربي إنصب الجهد الفكري في العصر الحديث على صراعنا المرير ضد الصهيونية من جهة ومن جهة أخرى إنصب على تحميل النظام السياسي العربي كامل المسؤولية في الوقت الذي كانت فيه هذه الدول تعاني من حالة خلط قصري تفرضه الأغلبية على الأقلية أو قانون الأقوى وينتج عنه صراع مرير بين المفروض والمرفوض قابل للإنفجار في أي وقت . بمعنى أن الدول حين أُسست لم تراعي الخصوصية الفردية والجماعية وهي المفروض ، وفرضت عكسه تماما .
فنحن كأحوازيين إذا فرضنا أن معيارنا الوطني هو احترام آدمية المواطن الاحوازي ، فحينها يمكن أن نصيغ حلم مستقبلي حول شكل الدولة المنشودة والتي تحترم هذا المعيار .
للموضوع تتمة …